يعتقد البعض من الناس أو الكثير منهم أن عين زبيدة ممتدة من العراق إلى مكة المكرمة، وكثيرون يصرّون على ذلك، ولكن الحقيقة أن أصل هذه العين من وادي نعمان شرق مكة المكرمة يسار المتّجه من مكة المكرمة إلى الطائف. فلابد لكل زائر لمكة المكرمة الصاعد إلى الطائف أو النازل منها، من أن يشاهد على سفوح الجبال بقايا بناء قناة «زبيدة» الأسطورية التي نفّذتها السيدة زبيدة بعد حجها عام 186هـ؛ فقد أدركت زبيدة في أثناء حجّها مدى الصعوبات التي تواجه الحجاج خلال طريقهم إلى مكة من نقص المياه، وما يعانونه من جرّاء حملهم لقرب الماء من تعب وإرهاق، وكان الكثير منهم يموتون جرّاء ذلك. وبسبب ذلك، قرّرت زبيدة وأمرت بحفر قنوات مائية تتصل بمساقط المطر، فاشترت جميع الأراضي في الوادي، وأبطلت المزارع والنخيل، وأمرت بأن تُشقّ للمياه قناة في الجبال. وفي أثناء مرور القناة بالجبال، جعلت لها فتحات لأقنية فرعية أقامتها في المواضع التي تكون متوقعة لاجتماع مياه السيول؛ لتكون هذه المياه روافد تزيد في حجم المياه المجرورة إلى مكة المكرمة عبر القناة الرئيسة، ومن هذه الأقنية الفرعية التي خصّصتها للمياه الإضافية السيلية في الطريق: «عين مشاش» و«عين ميمون» و«عين الزعفران» و«عين البرود» و«عين الطارقي» و«عين تقبة» و«الجرنيات»؛ وكل مياه هذه الأقنية الفرعية تصبّ في القناة الرئيسة، وبعضها يزيد سنويًا، وبعضها ينقص بحسب الأمطار الواقعة على نواحيها من وادي نعمان إلى عرفة. ثم إن السيدة زبيدة أمرت بجرّ «عين وادي نعمان إلى عرفة»، وهي مياه تنبع من ذيل جبل كرا بأرض الطائف أيضًا، وأمرت بجرّ هذه المياه في قناة إلى موضع يُقال له «الأوجر» في وادي نعمان، وفيه إلى أرض عرفة، ثم إنها أمرت أن تُدار القناة على جبل الرحمة محل الموقف الشريف، وأن تجعل منها فروعًا إلى البرك التي في أرض عرفة ليشرب منها الحجاج يوم عرفة، وهيأت الأماكن الخاصة لذلك على شكل حنفيات حجريّة جميلة؛ لكي يشرب الحجاج منها بكل يسر وسهولة، كما بُني في هذه القنوات الملتفّة بجبل الرحمة مجارٍ لتجميع مياه الوضوء وصرفها إلى المزارع المجاورة التي كانت موجودة في السابق. ثم أمرت أن تمتد القناة من أرض عرفة إلى خلف الجبل، إلى منطقة يسميها أهل مكة، «المظلمة» (وتخترق القنوات خرزات، أو ما يُسمّى حاليًّا بغرف تفتيش بعضها ظاهر على سطح الأرض، ويُسمى بالخرزات الظاهرة، وأخرى مدفونة حُدّد مكانها دون أن تظهر على سطح الأرض، والجدير بالذكر فإن القناة تمرّ بمجرى أحد السيول؛ لذا فقد بُني سدٌّ لحجز تلك السيول، والتحكم في تدفّقها لسقي المزارع الواقعة في أسفله، ولا تزال أجزاء من هذا السدّ باقية حتى الآن ويمكن مشاهدته)، ومن ثمَ تصل إلى «المزدلفة» إلى جبل خلف «منى»، ثم تصبّ في بئر عظيمة مرصوفة بأحجار كبيرة جدًا تُسمّى «بئر زبيدة». ثم يمتدّ هذا المجرى إلى مكة المكرمة مرورًا بمنطقة العزيزية، ثم إلى منطقة الششة، ثم تمرّ بالمعابدة، وتستمر هذه القنوات متجهة نحو مكّة المكرّمة، لكنها تعود لتأخذ مسارها مدفونة على أعماق قريبة من سطح الأرض، حتى تصبّ في بئر عظيمة مطويّة بأحجار كبيرة جدًا تُسمّى أيضًا «بئر زبيدة»، في منطقة تُسمّى اليوم بمحبس الجن، إليها ينتهي امتداد هذه القناة العظيمة (قناة عين زبيدة). وقد أنفقت زبيدة الكثير من أموالها وجواهرها لتوفر للحجاج المياه العذبة والراحة وتحميهم من كارثة الموت. وبعد أن أمرت خازن أموالها بتكليف أمهر المهندسين والعمال لإنشاء هذه العين؛ أسرّ لها خازن أموالها بعظم التكاليف التي سوف يكلفها هذا المشروع، فقالت له: "اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارًا"، وقد بلغ طول هذه العين عشرة أميال تقريبًا، أو ما يعادل ستة عشر كيلو مترًا. وقيل إنه بلغ مجموع ما أنفقته السيدة "زبيدة على هذا المشروع 1,700,000 مثقال من الذهب. أي ما يساوي 5,950 كيلو غرامًا. ولما تمّ عملها اجتمع العمال لديها، وأخرجوا دفاترهم ليؤدوا حساب ما صرفوه، وليبرّئوا ذممهم من أمانة ما تسلموه من خزائن الأموال، وكانت السيدة «زبيدة» في قصر مطلٍّ على دجلة، فأخذت الدفاتر ورمتها في النهر، قائلة: "تركنا الحساب ليوم الحساب؛ فمن بقي عنده شيء من المال فهو له، ومن بقي له شيء عندنا أعطيناه"، وألبستهم الخِلَع والتشاريف. وقد وصف اليافعي (عين زبيدة) في القرن 8 هـ فقال: «إن آثارها باقية ومشتملة على عمارة عظيمة عجيبة مما يتنزه برؤيتها على يمين الذاهب إلى منى من مكة ذات بنيان محكم في الجبال تقصر العبارة عن وصف حسنه، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جدًا، لا يوصل إلى قراره إلاّ بهبوط كالبئر، ولظلمته يفزع بعض الناس إذا نزل فيه وحده نهارًا فضلاً عن الليل.» وبفعل العوامل الطبيعية فقد تعرّضت عين زبيدة للانقطاع لقلة الأمطار، وطرأ في بعض الأحوال على قنواتها تخريب من أثر السيول، وتوالي الأزمان، وكان الخلفاء والسلاطين الذين تعاقبوا على الحكم في الأقطار الإسلامية إذا بلغهم ذلك تحرّكت هِمَمهم لإصلاح تلك العين التي تتمتع بتلك الهندسة الزبيدية العباسية